أ.عائشة الشهري
إخصائي أول علم نفس
كل ما يحتاج إليه طفلك لتصبح لديه ذات مفككة ومشوهة هو ألا تكون واعياً بعلاقتك وتفاعلاتك اليومية معه، أن تعامله بتناقض لا تدركه، أن تقول له ما لا تفعله، أن تذكر كل مرة تعليقاً سلبياً عليه مثل: (لم تنه طعامك، لم تنه دروسك، تأخرت في النوم، ملابسك متسخة، صوتك مرتفع، لم ترتب سريرك، لم ترتب لعبك الخ.. ظناً منك أن هذه هي التربية ، ثم تقول له أنك تحبه في آخر النهار قبل النوم حتى لا تشعر بالذنب، في النهار التالي يتم تذكيره أن عليه ان يقوم بكل ما تريده من جديد بغض النظر عن مشاعره وأفكاره وتساؤلاته فذلك لا يهم ولا وقت الان للشرح والاستماع وانت والده او والدته ، وهكذا يتعلم أنه كلما فعل ما نطلبه منه سنكون سعداء وسنشعره بالقبول والمحبة، وكلما رفض سنغضب ونصدر الأوامر أو العقاب، وتدريجيا نكرر تلك الارشادات وإصدار الأحكام السلبية، حتى يلتصق به شعور الخجل والعار من تلك الأخطاء الصغيرة المتراكمة ومع مرور الوقت تتكون تلك “الحفر النفسية العميقة بداخله “، وعند عمر الخامسة والسادسة سيكون جاهزاً لمزيد من التجارب السلبية في المدرسة عبر ضعف توكيد الذات والتنمر والعنف المدرسي والسلبية، او العدوانية والعدائية والغضب، ثم ما تلبث أن تنفصل تلك الذات الجريحة تاركة أجزاء مهشمة وعواطف لا تطاق مرتبطة بصورة ذاتية مفككة، تؤكد النتائج البحثية كل يوم عن دور السلوك التدميري للذات في تعزيز الانفصال هروباً من تلك الاساءات النمائية في السنوات الأولى ومحاولات تنظيم العاطفة الساحقة، أحد تلك السلوكيات التدميرية للذات هو استخدام المواد الادمانية التي تجعل من متعاطيها باحثاً عاجزاً عن حلول غير موجودة فهو يحاول اكتساب قدرة لمواجهة الخجل والعار وشعور عدم الكفاءة وهي مشاعر مرتبطة بالانتحار والقلق وضعف القدرة على التعاطف والقاء اللوم على الآخرين و من ناحية أخرى فهو يعيد حالة الانفصال والانقسام الاصلية الأولى التي نتجت عن طفولته المؤلمة في محاولات يائسة لتهدئة وعلاج الذات المهشمة وإعطاؤها معنى متماسك.
وفقاً لأندرو موريسون، فإن العار هو “الجانب السفلي من النرجسية، الشخصية النرجسية حيث يواجه الأفراد المضطربون صعوبة هائلة في تحمل الخجل، وبالتالي يستخدمون دفاعات مشوهة للواقع لحماية أنفسهم حتى من معرفة عارهم.
يهتم كثيراً من الوالدين بمعرفة كيف يمكن اكتشاف أن ابنهما أصبح مريضاً بالإدمان وكيف يمكن معرفة شكل ونوع المادة وكيف وأين يبحثان في غرفته أو كيف يتم إمساكه متلبساً بالجريمة الإدمانية حتى تبدأ رحلة الغضب عبر عزله وحرمانه وأنه لم يعد محبوباً ولابد من عقابه حتى يتوقف عن محاولة ترميم ذاته المهشمة؟!
سيكون الفارق عظيماً لو حاول كلا الوالدين كثيراً في معرفة ماهي نقاط ضعف ابني أو ابنتي الشخصية منذ المراحل الأولى في حياته التي قد تجعل منهما محتاجاً لممارسة سلوكٍ ما ليعالج تلك الجروح النفسية التي تشكلت بداخله.
لا يحتاج الأمر من وآلديّ الطفل صدمات كبرى ليكون ابنهما تعيساً في الرشد بل تكفي تلك الإساءات المتكررة اليومية ويكفي ذلك التجاهل لوجوده واحتياجاته المختلفة وتكفي تلك التناقضات في أسلوب المعاملة من كلا الوالدين وتكفي تلك الساعات التي تمر ولا يقضيا مع أبناءهما وقت حقيقي وحديث حقيقي، ويكفي ذلك الجوع العميق لأب لم يعكس القوة والقدرة والرعاية، والجوع لأم لم تعكس التهدئة والحب غير المشروط، والجوع لأصدقاء ورفقة وبيئة مشبعة للفضول والتجربة والفشل والنجاح، إن مجرد التهديد (بفقد الحب الوالدي) فهو مصدر من مصادر العار وبالتالي التفكك والانفصال أو النرجسية والعدائية وتوجيه هذا العار باتجاه شيء ما للتخلص منه .
إن التدخلات العلاجية لمن عانوا من صدمات الطفولة المؤلمة تتضمن تحسين القدرة على التواصل مع كل جوانب الذات التي تم إخراسها وتعلم تحمل تلك العواطف والمشاعر المؤلمة دون اللجوء للمادة أو السلوك التدميري، كما إن العلاقة العلاجية الرحيمة بالذات والمعالج منذ الوهلة الأولى تشكل عاملاً أساسيا ومؤثراً في البدء بالتواصل ثم رحلة التعافي، سيتعلم العميل رؤية ما يحدث معه وانعكاس ذاته وتجاربه في العلاقة العلاجية وحتى في كل علاقة يعيشها، والتعامل مع كل أجزائه المنفصلة باحترامٍ كاف ليشكل تحالفاً قوياً يساعده على مواجهة تلك العواطف الفوضوية المخيفة. أخيراً يا صديقي المتألم ليس أمامك إلا أن تبدأ بالترحيب من جديد بذاتك وبدء صفحة جديدة.