أ.أحمد عبدالغني الثقفي
وزارة الإعلام
في خضم تسارع الحياة وتفاقم الضغوط اليومية، لم يعد الحديث عن “الصحة العقلية” ترفًا فكريًا أو ترفًا مجتمعيًا، بل غدا ضرورة وجودية، وحجر الأساس في بناء الإنسان السليم نفسياً، المتزن سلوكياً، القادر على مواجهة تحديات الحياة بانسجام وتوازن.
الصحة العقلية ليست مجرد غياب للاضطرابات النفسية، بل هي حضور فاعل لقدرة الفرد على التفكير الواضح، والشعور الإيجابي، والتفاعل المتزن، واتخاذ القرارات السليمة.
ولأن العقل هو موطن القرار والإدراك والعاطفة، فإن حمايته ورعايته تُعد من أسمى مقاصد التنمية البشرية، بل إنها تُعدّ مدخلًا رئيسيًا في كل سياسة تعليمية، صحية، اقتصادية، وأمنية.
أولاً: ما المقصود بالصحة العقلية الآمنة؟
الصحة العقلية الآمنة تُشير إلى حالة من التوازن النفسي والعاطفي والسلوكي، تجعل الإنسان قادرًا على التكيف مع بيئته، وإدارة مشاعره، والتفاعل مع الآخرين بمرونة، والتمتع بجودة حياة مستقرة.
وتشمل عدة جوانب، منها:
• القدرة على التفكير السليم.
• التعامل الصحي مع الضغوط.
• التحكم بالعواطف والمزاج.
• التمتع بعلاقات اجتماعية مستقرة.
• الإنتاجية والفعالية في العمل أو الدراسة.
ثانياً: لماذا نحتاج إلى صحة عقلية آمنة؟
1. لأنها تحمينا من الانهيار النفسي:
المشكلات النفسية مثل القلق والاكتئاب لا تظهر فجأة، بل تتراكم بصمت، وتنفجر حين تغيب الوقاية والتوازن العقلي، فينهار الإنسان أمام ضغط الحياة، ويخسر ذاته.
2. لأنها تُحسن جودة الحياة:
الشخص الذي يتمتع بصحة عقلية جيدة يكون أكثر سعادة، وأفضل إنتاجية، وأوسع إدراكًا، وأقوى في مواجهة التحديات اليومية.
3. لأنها تؤثر في كل قراراتنا:
من التعليم إلى الزواج، ومن الوظيفة إلى العلاقات الاجتماعية، العقل السليم هو من يختار، ويدير، ويوازن.
4. لأنها تُقلل من التكاليف الصحية والاقتصادية:
الصحة العقلية السيئة تؤدي إلى زيادة في الأمراض المزمنة، والتغيب عن العمل، والحوادث، والانتحار، مما يرهق ميزانيات الدول.
ثالثاً: المؤشرات العامة للصحة العقلية الجيدة
• النوم المنتظم والعميق.
• القدرة على التواصل والتفاعل الاجتماعي.
• الإحساس بالرضا العام عن الذات.
• القدرة على ضبط الانفعالات.
• الإنتاجية والانخراط في الأنشطة المفيدة.
• التعامل الإيجابي مع الخسارة والضغوط.
رابعاً: التحديات التي تهدد الصحة العقلية
1. الضغوط الاقتصادية والمعيشية:
البطالة، الديون، الغلاء، وعدم الاستقرار المالي.
2. الانعزال الرقمي والانفصال الاجتماعي:
الإفراط في استخدام الأجهزة الذكية، وتراجع اللقاءات الحقيقية.
3. الوصمة الاجتماعية:
الخوف من الاعتراف بالمشكلات النفسية بسبب النظرة المجتمعية السلبية.
4. الأحداث الصادمة:
مثل فقدان الأحبة، الحوادث، الحروب، أو الكوارث الطبيعية.
5. غياب التوجيه النفسي في مراحل الطفولة والمراهقة:
حيث تتكوّن البنية النفسية والوجدانية للفرد، وأي خلل فيها يترك أثرًا طويل الأمد.
خامساً: كيف نحقق بيئة صحية عقلية آمنة؟
1. دور الأسرة:
• الحوار المفتوح مع الأبناء.
• اكتشاف المؤشرات النفسية المبكرة.
• بناء الثقة والدعم العاطفي.
2. دور المدرسة والجامعة:
• توفير مرشدين نفسيين مدربين.
• تعزيز مهارات الوعي الذاتي.
• دمج أنشطة تخفف الضغط النفسي.
3. دور الإعلام:
• التوعية بأهمية الصحة النفسية.
• إزالة الوصمة عن العلاج النفسي.
• تقديم نماذج إيجابية لتجاوز المحن النفسية.
4. دور الأخصائيين والمعالجين:
• توفير خدمات يسهل الوصول إليها.
• التعامل مع المرضى بسرية واحترام.
• نشر ثقافة الوقاية لا الاكتفاء بالعلاج.
5. دور السياسات الوطنية:
• إدماج الصحة النفسية في الخطط الصحية.
• تمويل مراكز العلاج النفسي.
• إدراج مؤشرات الصحة النفسية ضمن تقارير التنمية.
سادساً: المملكة العربية السعودية والصحة العقلية
تبذل المملكة جهودًا كبيرة لتوفير منظومة صحية عقلية متكاملة، من خلال:
• مراكز الصحة النفسية المجتمعية في مختلف المناطق.
• برامج تعزيز الصحة النفسية المدرسية والجامعية.
• إدماج الصحة النفسية ضمن رؤية 2030.
• إطلاق “الخط الوطني للدعم النفسي” عبر الرقم 937.
• دعم أبحاث الاكتئاب والقلق وإدمان المواد.
• حملات توعية متكررة من هيئة الصحة العامة ومركز تعزيز الصحة النفسية.
سابعاً: نصائح لتعزيز الصحة العقلية الفردية
• مارس الرياضة بانتظام.
• نم جيدًا وبشكل كافٍ.
• قلل من استخدام الأجهزة الذكية.
• تحدث عن مشاعرك مع من تثق.
• اطلب المساعدة حين تشعر بالضغط.
• خذ فترات راحة ذهنية ونفسية بين العمل.
• مارس التأمل أو العبادة لتصفية الذهن.
ثامناً: الصحة العقلية في زمن الأزمات – اختبار الوعي الجماعي
أثبتت جائحة كورونا وما تبعها من عزلة وتوتر عالمي، أن الصحة النفسية ليست هامشًا، بل هي جوهر البقاء. فقد ارتفعت معدلات القلق والاكتئاب والانتحار حول العالم، وأصبحت الحاجة لدعم نفسي جماعي تتجاوز التخصص الطبي لتشمل التعليم، والإعلام، والدين، والمجتمع المدني.
الصحة العقلية الآمنة ليست غاية مؤقتة، بل هي استثمار طويل الأمد في حياة الإنسان. إن العقل حين يُهمل، يصبح بيئة خصبة للانهيار والضعف، وحين يُرعى ويُحترم، يصبح منبعًا للثبات والإنجاز والنمو. فلنجعل من الوعي العقلي أولوية وطنية وإنسانية، نغرسها في المدارس، ونرعاها في البيوت، ونتبناها في السياسات، ونحتفي بها في كل مؤسسات الحياة.